فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد روي أن النبي عليه الصلاةَ والسلام وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي، وقيل: بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق، وناهيةٌ عن الكذِب والزور {اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب}.
{فَيُقْسِمَانِ بالله} عطفٌ على تحبسونهما وقوله تعالى: {إِنِ ارتبتم} شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب، أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله، وقولُه تعالى: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا} جوابٌ للقسم، وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط، فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبًا، فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونها كما في قولك: والله إن أتيتَني لأكرمنك، ولا ريب في استحالة ذلك هاهنا لأن القسم وجوابه كلاهما منفصل وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى، والاشتراءُ هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذُها بدلًا منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل، وإن كان مستلزِمًا له، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع، ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عينًا كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل، كما هو المعتبر في المستعار منه حسبما مر تفصيلُه في تفسير قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} والضمير في {به} لله، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلًا من الله، أي مِنْ حُرمته عَرَضًا من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، وقيل: الضمير للقسم، فلابد من تقدير مضافٍ ألبتةَ، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله، أي لا نأخذ لأنفسنا بدلًا منها عرَضًا من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب، أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى، سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب، أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئًا مرغوبًا فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم، ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك، وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عَرَض الدينا كالقسم الكاذب لكن لا محذور فيه، وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له هاهنا حتى يصِحَّ التبروءُ منه، وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب، وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعمالِ الصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معًا حتى يُتصوَّرَ جعلُ ما أُخذَ باستعمالِه مأخوذًا بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف، فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل، وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ} أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي قريبًا منا، تأكيدٌ لتبرُّئهم من الحلِف كاذبًا ومبالغةٌ في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذُ لأنفسنا بدلًا من حُرمة اسمه تعالى مالًا ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء، فكيف إذا لم يكنْ كذلك، وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال، بل هي راجعة إليه، وجواب «لو» محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه، أي لا نشتري به ثمنًا، والجملة معطوفةٌ على أخرى مثلِها، كما فُصِّل في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} الخ، وقوله عز وجل: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بإقامتها، معطوفٌ على {لا نشتري به} داخلٌ معه في حكم القسم، وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة، ثم ابتدأ {آلله} بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه بغير مد، كقولهم: الله لأفعلن {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثمين} أي إن كتمناها، وقرئ {لمِلاثِمين} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدخال النون فيها. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى {شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان} للشهادة معان: الإحضار والقضاء والحكم والحلف والعلم والإيصاء، والمراد بهاهنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ و{اثنان} خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم إثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة إثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل: الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل: الخبر محذوف و{اثنان} مرفوع بالمصدر الذي هو {شَهَادَةً} والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد إثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام.
وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول و{اثنان} قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر وإن جوزه البصريون كما في «شرح التسهيل» للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا: إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح.
و{إِذَا} ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، و{حِينَ الوصية} أما بدل من {إِذَا} وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها.
وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون {شَهَادَةً} مبتدأ خبره {إِذَا حَضَرَ} أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت و{حِينَ الوصية} على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفًا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره {حِينَ الوصية} و{إِذَا} منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير غير لأنها بمنزلة لا و{اثنان} على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدرًا أو خبرًا لشاهدان كذلك.
وعن الفراء أن {شَهَادَةً} مبتدأ و{اثنان} فاعله سدَّ مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد.
و{إِذَا} و{حِينٍ} عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة {شَهَادَةً} إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرئ {تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالرفع، وقيل: إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف ما جائز نحو {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه.
وقرأ الشعبي {شهادة بَيْنِكُمْ} بالرفع والتنوين فبينكم حينئذٍ منصوب على الظرفية.
وقرأ الحسن {شَهَادَةً} بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر {اثنان} فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان.
وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال} [النور: 36] في قراءة من قرأ {يُسَبّحُ} بالبناء للمفعول، وقول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة

أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحدًا من هذه الثلاثة.
وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في «البحر» وجهين للتخريج، الأول: أن تكون {شَهَادَةً} منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و{اثنان} مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيدًا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني: أن تكون مصدرًا لا بمعنى الأمر بل خبرًا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلًا كقوله:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم

فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفًا فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم، والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان.
{ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة، أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان {أَوْ ءاخَرَانِ} عطف على {اثنان} في سائر احتمالاته.
وقوله سبحانه: {مِنْ غَيْرِكُمْ} صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين.
واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص: إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولًا إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضًا سبب النزول وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
{إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرض} أي سافرتم، وارتفاع {أَنتُمْ} بفعل مضمر يفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناءً على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد {إذا} فجملة {ضَرَبْتُمْ} لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني.
وقوله تعالى: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيدًا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض الخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطًا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذٍ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه.
وقوله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا} أي تلزمونهما وتصبرونهما للتحليف استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه: تحبسونهما {مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ} أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وقتادة وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان.
وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله.
وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت.
والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر.
وجعل الحسن التقييد بذلك دليلًا على ما تقدم من تفسيره.
وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران؛ وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها.
وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضًا قطعًا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي ولا يخفى ما فيه.
والخطاب للموصى لهم وقيل: للورثة وقيل: للحكام والقضاة.
وقوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على {تَحْبِسُونَهُمَا} {إِنِ ارتبتم} أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة.